هذه القصة تبين مقدار الأسف الذي يصيب الشخص بعد انكشاف الواقع له
كان في إحدى مدن الهند سلطان قديرعادل. مات هذا السلطان, فخلفه ابنه وكان كأبيه في إيمانه وعدله ورحمته بالناس, إلا أن شخصا طاغيا ظهر في هذا البلد وثار عليه
رأى الأمير أن الدماء تهرق والفساد ينتشر, فقال في نفسه: من الأفضل أن اتنحى وأغادر البلد
لبس الأمير جبته الملكوتية, وكان فيها الكثير من الجواهر التي كانت معدة مسبقا لوقت الشدة, وانطلق إلى البادية ماشيا, دون أن يحمل معه شيئا من طعام أو مال
كان انطلاقه في الليل, وفي اليوم التالي وصل إلى ساقية ماء تحيط بها الأشجار, فجلس تحت إحداها يستريح, فإذا به يرى شخصا يقترب منه وهو يحمل على ظهره كيسا. قال في نفسه: لابد أنه مسافر مثلي, فلماذا لا أرافقه ولعلي أنال منه طعاما أدفع به الجوع
وصل المسافر الغريب أخيرا, فجلس تحت شجرة بالقرب من ساقية الماء, ثم أخرج طعاما من كيسه, وشرع يأكل دون أن يدعو السلطان لمشاركته, والسلطان بدوره خجل أن يسأله. ثم انطلقا معا وبعد مسيرة طويلة حل وقت الطعام ثانية, فجلس الغريب وفتح كيس الزاد, وراح يأكل دون أن يدعو السلطان أيضا
استمر السلطان الفار في رفقة الرجل يومين دون ان يطعم شيئا, وفي اليوم الثالث, كاد السلطان يفقد القدرة على الحركة فقرر الإنفصال عن المسافر الغريب وتابع سفره وحيدا
وصل السلطان إلى مكان معمور, فاقترب من ذلك المكان, فرأى عمالا يشتغلون في تشييد بناء, فطلب من المشرف على البناء أن يسمح له بالعمل معهم على أن يدفع له أجر عمله, فوافق
شرع السلطان في العمل, لكنه كان ضعيفا لا يقوى على الاستمرار, فسأل المشرف أن ينقده شيئا من أجرته مقدما, فوافق
ذهب السلطان فابتاع طعاما سد به جوعه, واستعاد قوته, ثم عاد إلى العمل بنشاط
لاحظ المشرف أن هذا العامل ليس شخصا عاديا إذ يبدو من تصرفه وسلوكه أنه من النبلاء, وأن حركاته تنم عن أصل رفيع, فراح إلى صاحبة البناء, وكانت سيدة محترمة, وقص عليها ما جرى,فطلبت منه أن يأتي به إليها وما أن رأته حتى عرفت جلالة قدره فدعته لضيافتها فوافق بكل ترحاب, فهو لا يعرف مكانا يأوي إليه
لاحظت السيده أدبه وحسن شمائله, فعرضت عليه الزواج بها فرضي, وعاش معها ثلاث سنوات يتقلب في نعمِ وهناء عيش دون أن يفصح لها عن حقيقته
وذات يوم التقى شخصا من اهل مملكته, فسأله عن أحوال الهند, فقص عليه قصة الطاغية, وأنه بعد حكم جائر امتد ثلاث سنوات ثار الناس عليه, وقتلوه. ثم أرسلوا الرسل في البلاد يبحثون عن سلطانهم, وأنه واحد من أولئك الرسل
فلما سمع السلطان كلام الرجل عرفه بنفسه وأراه جبته الملكوتية, ثم رجع إلى زوجته, وباح لها بالحقيقة, وطلب منها انتظاره ريثما يذهب لاستعادة ملكه
عاد الرسول إلى قومه وأخبرهم بعثوره على السلطان, فخرج الناس والأعيان ورجال الجيس لاستقباله, وهكذا استعاد ملكه دون أي عائق
تذكر السلطان ما عانى خلال سفره, فرأى كم هو صعب على المسافر أن يكون وحيدا , وخصوصا إذا كان فقيرا, فأمر بأن تقام المحطات على طول الطريق وبأن يعطى كل مسافر في كل واحدة منها زاد لثلاثة أيام. كما أمر بأن يأتوه بكل غريب يقدم المدينة, عل له حاجة فيقضيها له
ذات يوم, أحضروا للسلطان رجلا غريبا, وما أن رآه حتى عرف به ذلك الخسيس رفيقه في السفر فسأله:
هل عرفتني؟
قال الرجل : أنت السلطان
فقال: لا, بل أنا رفيقك في السفر
وما أن انكشفت الحقيقة للرجل حتى تمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه. فقال السلطان: لا عليك, فلن ترى مني إلا ما يرضيك
ثم أمر بأن تفرد له غرفته الشخصية ليكون مقامه فيها, وراح يشركه في طعامه ويبالغ في إكرامه
وعندما حل الليل وجاء وقت النوم أمر بأن يرقد في سريره الخاص, ووضع في تصرفه أفضل جواريه
مضى قسم من الليل, وإذا بالجارية تدخل على السلطان وتخبره أن ضيفه يغط في نوم عميق, وهو في أتم الراحة
فقال السلطان: أخطأت, فقد مات الرجل
فذهبوا إلى حيث ينام الرجل فكان الأمر كما قال السلطان, عندها قال السلطان: لقد مات هذا الرجل أسفا وحرة وندامة, وهذا ما كنت أريده
الحسرة ... عندما تنكشف الحقائق
ونرى كيف يجزي الله الإساءة بالإحسان ويزيد في احسانه
في الموقف الأول من مواقف يوم القيامة تصيب الناس حالة من الحيرة والبهت, تلازمهم مدة أربعين سنة, ثم تأتيهم حالة الخجل الشديد, فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : أن العبد في هذا الموقف يتصبب عرقا من شدة الخجل, فيتمنى لو يسوقوه إلى جهنم ليتخلص من هذا الموقف